النور والبصيرة

مقالات
5.4K
2



قلم فاطمة الكحلوت 

حين تغيب الشمس  أراقب الطرقات التي تهدأ ويقل ضجيجها مقارنة مع الصباح وكأن الحياة تبدأ بأنفاس جديدة مُعلنة الأرزاق والآمال والسعي نحوها في حين تتسلل إلى داخلي ذكريات جميلة لأماكن وأشخاص وأغنيات أعتد سماعها في موطني ولكن لا بأس في القدر الذي جعلنا نلجأ إلى وطنٍ آخر وكأن الحياة تفاجئنا لنصمد ونعتاد الأشياء رغما عن قلبنا .

على طريقي هنالك نساء ينتظرن عودة أزواجهن وأولادهن من الحرب وعلى الرصيف رماد الحياة وأوجاع الأطفال حين يبدأون التسول رغما عنهم ، وهنالك امرأة تدعي علم التنجيم مقابل الحصول على بضع دنانير ورغم أنني لا أؤمن بهذه الأمور إلا أنني أعطيها مما معي ، وهنالك شاب قد تخرج من الطب في وطنه فأصبح يبيع قبعات القش من أجل لقمة عيشه وهنالك فتاة تبيع الملابس سمعتها تقول لزميلتها بأنها علقت شهادتها الجامعية في تلك الغرفة التي لا يدخلها أحد .

أغلقت عيناي عن رماد الحياة وسرت عبر الطرقات إلى منزلي الذي أُخطأ دوما وأضيف له ياء الملكية وهو ليس ملكي وكأنني أدفع ضريبة لحياتي ولأنفاسي ورغم ذلك لا أتذمر أحاول أن أكون متفهما للوضع ، دخلت المنزل وأغلقت باب العالم الخارجي وبدأت أعيش عزلتي ووحدتي وأحلامي بينما زوجتي تعيش هذه الحالة منذ سنوات فقد اكتفت بعالمها ولم تستطع التأقلم أو العيش هنا فبعد وفاة أبناءنا في الحرب بعد أن هُدمت المدرسة التي كانوا فيها بَقيت مُصابة وللأبد ، وبعد مرور الوقت شعرت بأن هنالك رسائل تأتي إلينا في هذه الحياة تجعلنا نخاف الله أكثر من الخوف من الفقدان وحتى أنها تجعلنا نعيش حالة الوحدة والتخلي الذي يكون بقصد منا أو من دون قصد .

بعد منتصف الليل وبعد أن اكتفيت من تصليح عقارب الساعات التي بين يدي ، أخذت أنظر عبر النافذة إلى الحي الذي نسكنه كم يخطر على بالي فكرة الهروب إلى مكان ليس فيه أحد ، أن آخذ زوجتي وأرحل بعيدا ، أن أجد لها دواءا يقلل وجعها ، فصوت صراخها في الليل يكاد يصيبني بالجنون وكأنها تعيش ليلة القصف مرة أخرى فتارة أحاول تهدئتها وتارة أقوم بمناداة الطبيب لها ، كم أريد وبصدق أن أعيد لها الحياة ، أن أجعلها تخطو خطوة لتتنفس من جديد وترى النور مرة أخرى .

يبدأ الصباح بصوت بائع الكعك وهو ينادي على المارة ليشتروا منه ، وصوت القرآن الكريم يملأ المكان من المقهى وصوت الأطفال وهم يتراكضون للذهاب إلى مدارسهم وصوت قلبي الذي ينادي حيَّ على الحياة ، فأفتح المحل وأزيل ستائر الأمس وأحاول أن أكمل يومي .




وضعت الساعات في مكانها إلى أن يأتي أصحابها على أمل أن لا ينسوا ضبط عقارب حياتهم بالطريقة التي تضمن لهم سعادة اليوم والغد ووقفت عند الباب الخلفي للمحل فوجدت غطاءاً وبقايا من الخبز وكأن هنالك من أمضى ليلته هنا ، راقبت الطريق ولم أجد أحد وانتظرت حتى آذان العصر فذهبت وأحسنت الوضوء وصليت مع الجماعة ودعوت الله أن يرزقني خير الدنيا والآخرة وأن يعيد لزوجتي عافيتها ، واستمعت للإمام وهو يقول عن محبة الآخرين ومساعدة الناس وأن لا ينسى المرء انسانيته حتى وإن فقد وطنه وعائلته وأحب الأشياء إلى قلبه ، شعرت بالنور يتسلل داخلي وأن الله يختبر صبري وأنني بحاجة إلى البصيرة التي تجعل الايمان ينبع من أعماقي وينير عتمة طريقي ورؤيتي للحياة ، وعند عودتي للمحل وجدت طفلا مُتسولا يسأل عن غِطاءٍ له كان قد نَسيه عند عتبة المحل ، بادلته الحديث وعرفت أنه طفل لاجئ ولا يوجد مكان يأوي إليه سوى الشارع فحينها قررت أن آخذه إلى المنزل وأن أعتني به وحين غابت الشمس وأغلقت باب المحل وعدنا إلى المنزل واذ بها زوجتي تحتضنه وتقبل رأسه وتقول له :عُمر ابني ، أردت أن أخبرها أن عُمر قد مات منذ سنوات ولكنها لن تستوعب حتى وان قلت لها ذلك ، عم الصمت داخلي وتتابعت الأوجاع رغما عني وشعرت بالعجز عن اخبارها الحقيقة ولكن الصمتَ كان الحل الأنسب .

رن جرس المنبه كانت الساعة التاسعة مساءا موعد اعطاء زوجتي حبة الدواء دخلت غرفتها فوجدتها تعطي الملابس لأيمن ذلك الطفل الذي حلم بحياة عادية كباقي الأطفال ، أعطيتها الدواء وكأس الماء وابتسمت لي فكانت أول ابتسامة لهى منذ سنوات ، ثم خرجت من المنزل لأشتري بعض من الأشياء فقابلني جاري المسيحي فرددت عليه السلام وسألني عن السبب الذي يجعلني أساعد الآخرين وابتسم في وجوه المارة رغما عن الأوجاع التي تحتضنني وتسكنني حينها تذكرت امام الجامع وما قاله لي بأن الإنسان يفقد وطنه وأهله والأشياء التي يحبها ولكنه لا يفقد انسانيته ، ومضيت أحمل في داخلي دقات عقارب تنبض لله ولحب الآخرين أعرتها للمسيحي الذي عاد إلى منزله وهو يحمل الحقائب عن شيخ كبير في السن ، وغدوت أشم رائحة الحب حين سمعت ذلك الأعمى وهو يرحب بي وفي داخله بصيرة لا يرى فيها إلا النور من قلبه حينها عرفت أين يكمن الحب وأن علي ضبط عقارب ساعتي لتدق حين يبدأ القلب برؤية النور حتى وإن كان الطريق معتم ، وعدت إلى منزلي فوجدت زوجتي تحضر الطعام لأيمن حينها تأكدت بأنني قمت بضبط عقارب ساعتي بالشكل الصحيح . 

كاتبة _الأردن 





هل ترغبين في تلقي الأخبار الجديدة التي تصدرها المجلة؟
الاشتراك في نشرة أخبار المجلة



تطبيق مجلة المرأة العربية

يمكنك اختيار نسخة التطبيق المناسبة لجهازك.

تطبيق مجلة المرأة العربية

تطبيق مجلة المرأة العربية

تعليقات الفيسبوك