– الطفولة في خطر!.
وقعت الطفولة في قبضة الألم بعدما عبثت بالسعادة وتمايلت على أنغام الاطمئنان!، ووقعنا نحن أمام شبح مخيف يُهدد إنسانيتنا مثله كمثل الأشباح الخيالية التي استخدمناها في قصص قبل النوم، اليوم تحقق الخيال وتحدث بلغة الصمت وقلة الحيلة أمام رهبة الحدث، نشهد أقسى معارك الطفولة في الحفاظ على براءة نبضها، ونواجه أشرس صراعات الدنيا تجاه من لا حول له ولا قوة!، أنامل ضعيفة لا تقوى إلا على الامساك بطرف جلباب الأم مخافة الضياع، والتعلق في رقبة الأب لحمايته من تيار الأيام وتقلباته.
الآن.. تسلحت لتدخل ساحة القتال التي حسبتها أرض “ملاهي” لا خوف منها!، فهل نصل إلى نهاية “الحدوتة” بسلام دون أن تصرخ قلوبنا على فقد أو تعذيب لأحباب الله الصغار؟
– “ريان”.. حارب ظلام البئر بدعاء الملايين.
الثلاثاء الأول من فبراير الجاري، وكما أطلق عليه العالم بأسره: “الثلاثاء المشئوم”!، خرج بطل قصتنا اليوم “ريان” صاحب الخمس سنوات ليلهو بالقرب من منزله الواقع في قرية “إغران”، والتي تبعد حوالي مئة كيلومتر عن إقليم “شفشاون” بشمال المغرب، حتى الآن الأمر طبيعي لا خلاف عليه، طفل يخرج من منزله ليستقبل الصباح بضحكات لا تأبه شيء سوى متعتها، وكعادة الأطفال تأخذهم سعادة اللحظة إلى أبعد من مجرد “لعب وشقاوة”!، فالكثير من الوقائع المأساوية راح الطفل ضحيتها نتيجة انغماسه في اللهو دون أن يعي خطورة موقعه، وهو ما حدث بالفعل مع “ريان”.
بعد ظهر اليوم – الثلاثاء- شعرت الأسرة بأن طفلها تغيب عن أنظارهم بشكل ملحوظ، خرجت الأم تبحث عن صغيرها في حدود مكان لهوه، ولكن سرعان ما نزل الأمر عليهم كالصاعقة!، الطفل وقع في حفرة البئر وضاع في ظلامه!.
“تليفون مربوط بحبل”.. كانت أولى محاولات الأسرة والأهالي في الوصول إلى موضع الطفل؛ وذلك نظرًا لعمق البئر وصعوبة الوصول إلى مصدر الآنين الذي خرج ليؤكد وجود طفل يطلب النجدة والخلاص، وبالفعل تأكدت مزاعم الأسرة بأن “ريان” هو ذلك الطفل المتألم داخل الصخور، وعلى عمق يصل إلى 32 مترًا علق الطفل دون طعام أو شراب يلحق جسده النحيل من تحلل قوته، وبلا قطرة أمل تنزل على وجهه المُدمى لتشفي جروحه.
انتظر الطفل في موقعه في باطن الأرض وحيدًا خائفًا لا يجد بجانبه سوى الظلام الدامس ولم تقع على مسامعه سوى صدى نبضه المنتفض رعبًا!، برد قارس وإعياء وعقل انقضت عليه التساؤلات: أين أمي؟، أين أنا؟، وبعد أن كان يلهو بالسطح وتصل ضحكاته عنان السماء، تفنن الخوف في اللهو به في أعماق التربة.
أتساءل كيف مرت لياليه؟، كيف واجه الرهبة والهلع بمفرده؟، كيف كان شعوره أمام موقف لم يمر به من قبل؟.
في البداية، حاول أهل القرية انقاذ الطفل بكل الطرق البدائية الممكنة، تكاتفوا معًا من أجل عودة ابتسامة الطفل لملامحه وقلب الأم لضلوعها، ولكن الأمر استدعى تدخل أكبر وأسرع قبل أن يزداد تعقيدًا؛ وعليه فقد حضرت أطقم السلطات المحلية للمهمة التي وصفها البعض بـ”المستحيلة”!.
البئر يزداد ضيقًا مع النزول إلى موضع الطفل؛ وهو ما وضع جهود الانقاذ تُكلل بالفشل بعد ثلاث محاولات لهم، وفيها نزل أحد خبراء في دخول المغارات والآبار، ولكنه لم ينجح إلا في الوصول إلى عمق 24 مترًا فقط، وفي كل محاولة يتهشم الأمل على الرؤوس واليأس يصبح سيد الموقف، ولكن ماذا عن ريان؟، ماذا عن حالته الصحية والنفسية أثناء محاولات الانقاذ التي لم تتوقف لحظة؟، هل هو على قيد الوعي يدرك ما يحدث حوله؟، هل يتنفس بشكل سليم؟، هل وقع في حفرة الجوع والعطش كما وقع هو في حفرة الحزن والحيرة؟، هو الأمر الذي أجابت عليه السلطات والجهات المعنية التي أكدت وصول الطعام والشراب للطفل لكي يتماسك في ظل الظرف القاسي الكفيل بأن يسحق نفسية أي طفل في مثل وضعه، بالإضافة إلى وصول الأكسجين له لكي يتفادى أي ضيق تنفس محتمل.
وأما عن المرحلة الثانية التي وضعتها فرق الانقاذ ضمن خطتها، تلخصت في الحفر بالجرافات -عموديًا- وذلك بالتوازي مع البئر، ولكن لطبيعة التربة الجيولوجية الصعبة وكونها تربة “الهشة” جعل هذا من عملية الحفر أمرًا معقدًا!؛ خوفًا على حياة الطفل جراء أي تفكك من التربة وانهيارها وهو بداخلها، ولكن..
بعد ساعات قليلة من محاولات الحفر الحذر، وصلت فرق الانقاذ إلى العميق المطلوب وهو 32 مترًا حيث يستقر الطفل، ولكن على خط موازي له، حتى انتهت عمليات الحفر العمودي لتبدأ بعدها مهمة أخرى للحفر الأفقي، وذلك على بُعد 8 أمتار، الجدير بالذكر أن تلك المسافة تزداد خطورة كلما اقتربنا من الطفل، فبعد 4 أمتار منها تصبح حياة “ريان” مُهددة كما هو الحال لفرق الانقاذ المُكلفة بالمهمة؛ لتضطر الدخول في مرحلة جديدة ألا وهي “الحفر اليدوي الأفقي”، وذلك في صباح الجمعة الرابع من الشهر الجاري، بادخال أنبوب وممرات وقنوات خرسانية، وسط دعوات هائلة رجت الأرض وشقت السماء تتوسل إلى الله راجية خروجه بسلام لأحضان الأم الدافئة.
في اليوم الخامس والأخير..
زف رجال الانقاذ الخبر المُنتظر: ” سنتيمترات على الوصول لريان”، الخبر الذي سكب الراحة والفرح على قلب الوطن العربي بأكمله، بل قُل العالم بأسره، الجميع ينتظر بلهفة لحظة خروج الطفل من مأساة أكبر من عُمره واحتماله، الأسرة ثابتة لن تتحرك إلا برفقة صغيرها المسكين، وبالفعل وصلت سيارات الاسعاف وبدأت الفرق الطبية في الانتشار بأرض الحدث، الكل يبحث عن ملامح ريان المُنهكة لكي تُطبب جراحه التي رسمت على وجهه أروع دليل على شجاعة طفل وضع العالم في مأزق كبير!.
السبت الخامس من فبراير، بين أحضان الليل خرج جسد ريان على الأكتاف، وسط “زغاريط” وابتهاج وسجدات شكر لرب العالمين، سعادة عارمة بخروج الطفل بعد “فيلم رعب” عاشته الأسرة دون فواصل إعلانية، ولكن وبعد دقائق معدودة على دموع الفرحة، تبدلت إلى دموع الحزن والوداع الأخير.
– من أعماق الأرض إلى قصور الجنة.. “ريان” يُحلق بعيدًا عن قسوة الدنيا.
“ريان مات”.. خرج بيان مغربي رسمي يعلن ويؤكد وفاة الطفل “ريان” بعد أيام قضاها بين الألم والأمل، لتكتب الإنسانية قصته بالدموع والدعاء بالرحمة والصبر لأسرته التي كابدت فزع لن يشعر به مخلوق.
فهل أدركنا رسالة الله التي وضعها في قلب طفل صغير؟.
اليوم أدركت البشرية بأسرها أنها كيان واحد لا يتجزأ، فرقتنا الحروب والخلافات والمنازعات السياسية ولكننا توحدنا بقلوبنا التي اشتعلت بالتضامن والدعم، فنحن لم نتعرف على “ريان” عن قرب، لم نُصادفه يومًا، لم نتشرب ملامحه إلا بعد ما حل به وبأسرته، تفصلنا الحدود، ولكن تجمعنا الإنسانية، أدركنا أن العالم أسرة واحدة وإن اختلفت العروق والأجناس والأديان، أن الوطن العربي لا يقف أمام الأحزان مُكبل لا يذرف دمعه ليساند أصحاب المصيبة والكرب، الجميع يتألم على ألم أسرة الطفل، الجميع لم يقتنص جفنه النوم في ليلة الوداع العصيبة، الجميع يتوحد من أجل طفل أثبت أن البطولة يمكن أن تخرج من أنامل البراءة.
– ثم ماذا عن أطفال الأمة العربية؟.
لم تتوقف قصص البطول عند “ريان”، فعندما تتحدث عن قصص شهدت أطفال كتبوا سطور البسالة بدماءهم فحدث ولا حرج.
أطفال المخيمات في سوريا، أطفال واجهت البرد القارس ووقعت تحت رحمته، وقفت أمام أحلامها مُقيدة لا تقوى على تحقيقها، قد تكون لا تقوى على الحُلم لفرط ما تواجهه بشكل يومي من قسوة وتشرد وضياع، ضاعت الآمال أمام التجمد!؛ حيث دفعت الأسر الثمن بأرواح صغارها، لنفقد العشرات منهم أمام سيطرة البرودة القاسية التي تُعاني منها مخيمات الأسر السورية والتي أصبحت غير قابلة للعيش الآدمي!.
خرجت المنظمة الإنسانية لتعلن وفاة طفل في مخيم يقع في “قسطل المقداد” بسوريا؛ وذلك جراء تراكم الثلوج وهو الأمر الذي أدى إلى انهيار خيمته، ودخول والدته إلى وحدة العناية المركزة في محاولات للحفاظ على حياتها، وفي نفس السياق، وصل الحال إلى مخيم بشمال حلب ليرحل طفلين عن الحياة؛ بعدما اندلعت الحرائق في خيمتهم والفاعل “مدفأة” كانت هي ملاذهم الوحيد من البرد المسيطر خارج حدود الخيمة، كما تم تسجيل حالة وفاة أخرى لطفل من مخيم “الهول” بشرق الحسكة؛ نتيجة البرد الشديد وانعدام الرعاية الصحية التي يتطلبها الأطفال في مثل هذه الظروف، وفي ريف “إدلب”، تعرضت طفلة تبلغ من العُمر “شهر ونصف” لوعكة صحية قام على إثرها والدها بالبحث عن أقرب نقطة طبية لانقاذها، ولكنها فقدت أنفاسها بعد المشي لمسافة طويلة برفقة برودة الجو وقبل الوصول.
وما خفي كان أعظم!، فهل نتضامن معهم ونرفع أصوات استغاثتهم عاليًا لكي نضع حدًا لتلك المهازل والكوارث في حق طفولتهم؟.
– “مشان الله لا تضربوني”.. طفولة مُختطفة ورجاء من قلب يعتصره الألم.
محمد فواز قطيفان.. ضحية تعذيب البراءة مقابل المال، فمن يدفع الثمن؟.
طفل سوري تعرض لعملية اختطاف من قِبل عصابة بريف مدينة “درعا” بجنوب سوريا، وهي البقعة التي انتشرت فيها عمليات الخطف والسرقة وتدهور فيها الأمن بشكل كبير.
الطفل تعرض لعملية الاختطاف في صباح الثاني من نوفمبر الماضي، وهو في طريقه إلى مدرسته واجه 4 أشخاص من بينهم امرأة، مؤكدًا أن الاختطاف تم عن “قصد”؛ مُعلًلا ذلك بأنهم أشاروا إليه دون غيره من قِبل المرأة.
وفي محاولة من التشكيل العصابي للضغط على أسرة الطفل؛ قامت بتسجيل “فيديو” يوثق عمليات تعذيب الطفل -شبه عاريًا- وجلده وممارسة أعمال العنف ضده؛ وذلك لابتزاز واجبار أسرته على دفع “الفدية” المطلوبة والتي تُقدر بحوالي 500 مليون ليرة أي ما يُعادل 143 ألف دولار مقابل اطلاق سراحه، وذلك بعد مفاوضات كبيرة بتخفيض المبلغ المطلوب في بداية الأمر وهو 700 مليون ليرة.
– جسد يصرخ متضرعًا بالرحمة.
ولكن الطفل لم يجد سوى أن يطلب منهم العفو عنه بكلماته البسيطة: “مشان الله لا تضربوني”، وهو ما نشر الحزن على مواقع التواصل الإجتماعي؛ فتفاعل رواده ودشنوا حملات ضخمة تطالب بسرعة انقاذه الطفل وتسليط الضوء على قضيته مثلما حدث مسبقًا في قضية “ريان”، وسط متابعات دورية لمستجدات الحدث مع أسرته وآخر تطورات الأمر، حيث عجزت الأسرة في تحصيل المبلغ المطلوب بالكامل ولم تجمع سوى 250 مليون ليرة حتى الآن؛ فخرجت مناشدات دولية تطالب بالتبرع لانقاذ الطفل من أنياب من لا ضمير لهم.
وغيرها من الحوادث التي يقع فيها اطفالنا كل ليلة، ولكل قصة تفاصيل تحتاج أن تخرج للنور قبل أن تتحول إلى جثة هامدة.
فهل نتكاتف بحزم لإخراج الطفولة من المساومات السياسية والحروب الدنيوية؟، حيث تنتهي الجرائم في حق الطفل وتبدأ صفحة جديدة يُسطرها لمستقبله، دون ألم أو فقد ينتهي بعويل، هل تصل صرخاتهم الطاهرة بجدوى دون المساس بهم؟، قد تكون مأساة “ريان” شعلة البداية لكي نلقي نظرة على مآسي أطفال العرب، والالتحام معهم حتى تخرج ابتسامتهم من عمق الوجع، هل تتوجه جهود الدول العربية -إعلاميًا- لتغطية مثل هذه القضايا بالشكل الموسع الذي نالته قضية الطفل المغربي “ملاك الجنة”؟، قد نحتاج إلى رؤية أكثر شمولًا لانقاذ ما يمكن انقاذه من أطفالنا، أطفال العروبة.